فصل: ذكر وفاة معاوية بن أبي سفيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عزل ابن زياد عن خراسان واستعمال سعيد بن عثمان بن عفان:

في هذه السنة استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وعزل ابن زياد.
وسبب ذلك أنه سأل معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد. فقال: والله لقد اصطنعك أبي حتى بلغت باصطناعة المدى الذي لا تجارى إليه ولا تسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته وقدمت هذا- يعني يزيد- وبايعت له، والله لأنا خير منه أباً وأماً ونفساً! فقال معاوية: أما بلاء أبيك فقد يحق عليك الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني قد طلبت بدمه، وأما فضل أبيك على أبيه فهو والله خير مني، وأما فضل أمك على أمه فلعمري امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة ملئت رجالاً مثلك. فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره، قد عتب عليك فأعتبه.
فولاه حرب خراسان، وولى إسحاق بن طلحة خراجها، وكان إسحاق ابن خالة معاوية، أمه أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فلما صار بالري مات إسحاق فولي سعيد حربها وخراجها، فلما قدم خراسان قطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه الصغد فتواقفوا يوماً إلى الليل ولم يقتتلوا، فقال مالك بن الريب:
ما زلت يوم الصغد ترعد واقفاً ** من الجبن حتى خفت أن تنتصرا

فلما كان من الغد اقتتلوا فهزمهم سعيد وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهناً منهم خمسين غلاماً من أبناء عظمائهم، فسار إلى ترمذ ففتحها صلحاً ولم يف لأهل سمرقند وجاء بالغلمان معه إلى المدينة. وكان ممن قتل معه قثم بن عباس بن عبد المطلب.
وفي هذه السنة ماتت جويرية بنت الحارث زوج النبي، صلى الله عليه وسلم. ثم دخلت:

.سنة سبع وخمسين:

فيها كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم.
وفيها عزل مروان بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان، وقيل: لم يعزل مروان هذه السنة. وحج بالناس الوليد بن عتبة. وكان العامل على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان. وفي هذه السنة مات عبد الله بن عامر، وقيل: سنة تسع وخمسين. وعبد الله بن قدامة السعدي، وله صحبة، وقيل: هو عبد الله بن عمرو بن وقدان السعدي، وإنما قيل له السعدي لأن أباه استرضع في بني سعدي بن بكر، وهو من بني عامر بن لؤي. وعثمان بن شيبة بن أبي طلحة العبدري، وهو جد بني شيبة سدنة الكعبة ومفتاحها معهم إلى الآن، وأسلم يوم الفتح، وقيل يوم حنين، وجبير بن مطعم بن نوفل القرشي، له صحبة. وأم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بقيت إلى قتل الحسين. ثم دخلت:

.سنة ثمان وخمسين:

في هذه السنة غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم وعمرو بن يزيد الجهني في البحر، وقيل: جنادة بن أبي أمية.

.ذكر عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال ابن أم الحكم:

وفي هذه السنة عزل معاوي الضحاك بن قيس عن الكوفة واستعمل عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، وهو ابن أم الحكم، وهو ابن أخت معاوية.
وفي عمله هذه السنة خرجت الخوارج الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم فجمعهم حيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جوين الطائي فخطباهم وحثاهم على الجهاد، فبايعوا حيان بن ظبيان وخرجوا إلى بانقيا، فسار إليهم الجيش من الكوفة فقتلوهم جميعاً.
ثم إن عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الكوفة لسوء سيرته، فلحق بخاله معاوية فولاه مصر، فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك، فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة! فرجع إلى معاوية.
ثم إن معاوية بن حديج وفد إلى معاوية، وكان إذا قدم إلى معاوية زينت له الطرق بقباب الريحان تعظيماً لشأنه، فدخل على معاوية وعنده أخته أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: بخ بخ! هذا معاوية بن حديج. قالت: لا مرحباً، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! فسمعها معاوية بن حديج فقال: على رسلك يا أم الحكم، والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة وما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضرباً يطأطىء منه، ولو كره هذا القاعد، يعني خاله معاوية. فالتفت إليها معاوية وقال: كفي، فكفت.

.ذكر خروج طواف بن غلاقٍ:

كان قوم من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه جدار فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم ابن زياد فحبسهم ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلي سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقهم، وكان ممن قتل طواف، فعذلهم أصحابهم وقالوا: قتلتم إخوانكم! قالوا: أكرهنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالإيمان.
وندم طوافٌ وأصحابه، فقال طواف: أما من توبة؟ فكانوا يبكون، وعرضوا على أولياء من قتلوا الدية فأبوا، وعرضوا عليهم القود فأبوا، ولقي طوافٌ الهثهاث بن ثور السدوسي فقال له: أما ترى لنا من توبة؟ فقال: ما أجد لك إلا آية في كتاب الله، عز وجل، قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ} النحل: 110. فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلى أن يفتكوا بابن زياد، فبايعوه في سنة ثمان وخمسين، وكانوا سبعين رجلاً من بني عبد القيس بالبصرة، فسعى بهم رجلٌ من أصحابهم إلى ابن زياد، فبلغ ذلك طوافاً فعجل الخروج، فخرجوا من ليلتهم فقتلوا رجلاً ومضوا إلى الجلحاء، فندب ابن زياد الشرط البخارية، فقاتلوهم، فانهزم الشرط حتى دخلوا البصرة واتبعوهم، وذلك يوم عيد الفطر، وكثرهم الناس فقاتلوا فقتلوا، وبقي طواف في ستة نفر، وعطش فرسه فأقحمه الماء، فرماه البخارية بالنشاب حتى قتلوه وصلبوه، ثم دفنه أهله؛ فقال شاعر منهم:
يا رب هب لي التقى والصدق في ثبتٍ ** واكف المهم فأنت الرزاق الكافي

حتى أبيع التي تفنى بآخرةٍ ** تبقى على دين مرداسٍ وطواف

وكهمس وأبي الشعثاء إذ نفروا ** إلى الإله ذوي اخباب زحاف

.ذكر قتل عروة بن أدية وغيره من الخوارج:

في هذه السنة اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج فقتل منهم جماعةً كثيرة، منهم: عروة بن أدية أخو أبي بلال مرداس بن أدية، وأدية أمهما، وأبوهما حدير، وهو تميمي.
وكان سبب قتله أن ابن زياد كان قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له: {أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين} الشعراء: 128- 130. فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنك! فاختفى، فطلبه ابن زياد فهرب وأتى الكوفة، فأخذ وقدم به على ابن زياد، فقطع يديه ورجليه وقتله، وقتل ابنته.
وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابداً مجتهداً عظيم القدر في الخوارج، وشهد صفين مع علي فأنكر التحكيم، وشهد النهروان مع الخوارج، وكانت الخوارج كلها تتولاه، ورأى على ابن عامر قباء أنكره فقال: هذا لباس الفساق! فقال أبو بكرة: لا تقل هذا للسلطان فإن من أبغض السلطان أبغضه الله. وكان لا يدين بالاستعراض، ويحرم خروج النساء، ويقول: لا نقاتل إلا من قاتلنا ولا نجبي إلا من حمينا.
وكانت البثجاء، امرأة من بني يربوع، تحرض على ابن زياد وتذكر تجبره وسوء سيرته، وكانت من المجتهدات، فذكرها ابن زياد، فقال لها أبو بلال: إن التقية لا بأس بها فتغيبي فإن هذا الجبار قد ذكرك. قالت: أخشى أن يلقى أحدٌ بسبي مكروهاً. فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها، فمر بها أبو بلال في السوق فعض على لحيته وقال: أهذه أطيب نفساً بالموت منك يا مرداس؟ ما ميتةٌ أموتها أحب إلي من ميتة البثجاء! ومر أبو بلال ببعير قد طلي بقطران فغشي عليه ثم أفاق فتلا: {سرابيلهم من قطرانٍ وتغشى وجوههم النار} إبراهيم: 50.
ثم إن ابن زياد ألح في طلب الخوراج فملأ منهم السجن وأخذ الناس بسببهم وحبس أبا بلال قبل أن يقتل أخاه عروة، فرأى السجان عبادته فأذن له كل ليلة في إتيان أهله، فكان يأتيهم ليلاً ويعود مع الصبح، وكان صديق مرداس إليه فأعلمه الخبر، وبات السجان بليلة سوء خوفاً أن يعلم مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يعود فيه إذا به قد أتى، فقال له السجان: أما بلغك ما عزم عليك الأمير؟ قال: بلى. قال: ثم جئت؟ قال: نعم، لم يكن جزاؤك مني مع إحسانك إلي أن تعاقب. وأصبح عبيد الله فقتل الخوارج، فلما أحضر مرداس قام السجان، وكان ظئراً لعبيد الله، فشفع فيه وقص عليه قصته، فوهبه له وخلى سبيله.
ثم أنه خاف ابن زياد فخرج في أربعين رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مالٌ لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد برهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين، وقيل: أبو حصين التميمي، وكان الجيش ألفي رجل، فلما وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردوننا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلاً من أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال. فشد الخوارج على أسلم وأصحابه شدة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خير فيك! فقال: لأن تلومني وأنا حي خير من أن تثني علي وأنا ميتٌ. فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا.
وقال رجل من الخوارج:
أألفا مؤمنٍ منكم زعمتم ** ويقتلهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ** ولكن الخوارج مؤمنونا

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس الوليد بن عتبة. في هذه السنة مات عقبة بن عامر الجهني، وله صحبة، وشهد صفين مع معاوية. وفيها توفيت عائشة، رضي الله عنها، وسمرة بن جندب، له صحبة. ومالك بن عبادة الغافقي، وله صحبة. وعميرة بن يثربي قاضي البصرة، واستقضي مكانه هشام بن هبيرة. ثم دخلت:

.سنة تسع وخمسين:

في هذه السنة كان مشتى عمرو بن مرة الجهني بأرض الروم البر، وغزا في البحر جندة بن أبي أمية، وقيل: لم يكن في البحر غزوة هذه السنة. وفي هذه السنة عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري، وقد تقدم سبب عزله، وقيل: كان عزله سنة ثمان وخمسين.

.ذكر ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان:

وفيها استعمل معاوية عبد الرحمن بن زياد على خراسان، وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمي، وأخذ أسلم بن زرعة فحبسه وأخذ منه ثلاثمائة ألف درهم، ثم قدم عبد الرحمن، وكان كريماً حريصاً ضعيفاً لم يغز غزوةً واحدة، وبقي بخراسان إلى أن قتل الحسين، فقدم على يزيد ومعه عشرون ألف ألف درهم، فقال: إن شئت حاسبناك وأخذنا ما معك ورددناك إلى عملك، وإن شئت أعطيناك ما معك وعزلناك وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم. قال: بل تعطيني ما معي وتعزلني. ففعل فأرسل عبد الرحمن إلى ابن جعفر بألف ألف وقال: هذه خمسمائة ألف من يزيد وخمسمائة ألف مني.

.ذكر عزل ابن زياد عن البصرة وعوده إليها:

في هذه السنة عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن البصرة وأعاده إليها.
وسبب ذلك أن ابن زياد وفد على معاوية في وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف، وكان سيء المنزلة من عبيد الله، فلما دخلوا رحب معاوية بالأحنف وأجلسه معه على سريره، فأحس القوم الثناء على ابن زياد والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال: إن تكلمت خالفت القوم. فقال معاوية: انهضوا فقد عزلته عنكم واطلبوا والياً ترضونه؛ فلم يبق أحد إلا أتى رجلاً من بني أمية أو من أهل الشام والأحنف لم يبرح من منزله فلم يأت أحداً، فلبثوا أياماً، ثم جمعهم معاوية وقال لهم: من اخترتم؟ فاختلفت كلمتهم والأحنف ساكت، فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: إن وليت علينا أحداً من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحداً، وإن وليت من غيرهم فانظر في ذلك. فرده معاوية عليهم وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته، فما هاجت الفتنة لم يف له غير الأحنف.

.ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميري بني زياد وما كان منه:

كان يزيد بن مفرغ الحميري مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه ابن مفرغ، وأصاب الجند الذين مع عباد ضيقٌ في علوفات دوابهم، فقال ابن مفرغ:
ألا ليت اللحى كانت حشيشاً ** فنعلفها دواب المسلمينا

وكان عباد بن زياد عظيم اللحية، فقيل: ما أراد غيرك. فطلب فهرب منه وهجاه بقصائد، وكان مما هجاه به قوله:
إذا أودى معاوية بن حربٍ ** فبشر شعب رحلك بانصداع

فأشهد أن أمك لم تباشر ** أبا سفيان واضعة القناع

ولكن كان أمراً فيه لبسٌ ** على وجلٍ شديدٍ وارتياع

وقال أيضاً:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ** مغلغلةً من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ** وترضى أن يقال أبوك زان

فأشهد أن رحمك من زيادٍ ** كرحم الفيل من ولد الأتان

وقدم يزيد بن مفرغ البصرة وعبيد الله بن زياد بالشام عند معاوية، فكتب إليه أخوه عباد بما كان منه، فأعلم عبيد الله معاوية به وأنشده الشعر واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فلم يأذن له وأمره بتأديبه.
ولما قدم ابن مفرغ البصرة استجا بالأحنف وغيره من الرؤساء فلم يجره أحد، فاستجار بالمنذر بن الجارود فأجاره وأدخله داره، وكانت ابنته عند عبيد الله بن زياد، فلما قدم عبيد الله البصرة أخبر بمكان ابن مفرغ، وأتى المنذر عبيد الله مسلماً، فأرسل عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فأخذوا ابن مفرغ وأتوه به والمنذر عنده، فقال له المنذر: أيها الأمير إي قد أجرته! فقال: يا منذر يمدحك وأباك ويهجوني وأبي وتجبره علي! ثم أمر به فسقي دواء ثم حمل على حمار وطيف به وهو يسلح في ثيابه، فقال يهجو المنذر:
تركت قريشاً أن أجاور فيهم ** وجاورت عبد القيس أهل المشقر

أناسٌ أجارونا فكان جوارهم ** أعاصير من فسو العراق المبذر

فأصبح جاري من جذيمة نائماً ** ولا يمنع الجيران غير المشمر

فقال لعبيد الله:
يغسل الماء ما صنعت وقولي ** راسخٌ منك في العظام البوالي

ثم سيره عبد الله إلى أخيه عباد بسجستان، فكلمت اليمانية بالشام معاوية فيه، فأرسل إلى عباد فأخذه من عنده، فقدم على معاوية وقال في طريقه:
عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ** أمنت وهذا تحملين طليق

لعمري لقد نجاك من هوة الردى ** إمامٌ وحبلٌ للإمام وثيق

سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ ** ومثلي بشكر المنعمين حقيق

فلما دخل على معاوية بكى وقال: ركب مني ما لم يرتكب من مسلم مثله على غير حدث، قال: أولست القائل:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ

القصيدة؟ فقال: لا والله الذي عظم حق أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قاله عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان واتخذني ذريعة إلى هجاء زياد. قال: ألست القائل:
فأشهد أن أمك لم تباشر ** أبا سفيان واضعة القناع

في أشعار كثيرة هجوت بها ابن زياد؟ اذهب فقد عفونا عنك فانزل أي أرض الله شئت. فنزل الموصل وتزوج بها. فلما كان ليلة بنائه بامرأته خرج حين أصبح إلى الصيد فلقي إنساناً على حمار. فقال: من أين أقبلت؟ فقال: من الأهواز. قال: فما فعل ماء مسرقان؟ قال: على حاله. فارتاح إلى البصرة فقدمها ودخل على عبيد الله فآمنه.
وغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم فكلم فيه فقال: لا أرضى عنه حتى يرضى عنه ابن زياد. فقدم البصرة على عبيد الله وقال له:
لأنت زيادةٌ في آل حربٍ ** أحب إلي من إحدى بناتي

أراك أخاً وعماً وابن عمٍ ** فلا أدري بغيبٍ ما تراني

فقال: أراك شاعر سوء! ورضي عنه.

.ذكر عدة حوادث:

حج بالناس هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان.
وكان الوالي على الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة الوليد بن عتبة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، على سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور.
وفيها مات قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري بالمدينة، وقيل: سنة ستين، وكان قد شهد مع علي مشاهده كلها. وفيها مات سعيد بن العاص، وولد عام الهجرة، وقتل أبوه يوم بدر كافراً. وفيها مات مرة بن كعب البهري السلمي، وله صحبة. وفيها مات أبو محذورة الجمحي مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة، ولم يزل يؤذن بها حتى مات وولده من بعده، وقيل: مات سنة تسع وستين. وفيها مات عبد الله بن عامر بن كريز بمكة فدفن بعرفات. وفيها مات أبو هريرة، فحمل جنازته ولد عثمان بن عفان لهواه كان في عثمان.
وفيها غزا المسلمون حصن كمخ ومعهم عمير بن الحباب السلمي، فصعد عمير السور ولم يزل يقاتل عليه وحده حتى كشف الروم فصعد المسلمون، ففتحه بعمير، وبذلك كان يفتخر ويفخر له بذلك. ثم دخلت:

.سنة ستين:

في هذه السنة كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية ودخول جنادة رودس وهدمه مدينتها في قول بعضهم وفيها توفي معاوية بن أبي سفيان، وكان قد أخذ على وفد أهل البصرة البيعة ليزيد.

.ذكر وفاة معاوية بن أبي سفيان:

خطب معاوية قبل مرضه وقال: إني كزرع مستحصد وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أن من قبلي كان خيراً مني، وقد قيل: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي فيه! فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه، فلما مرض المرض الذي مات فيه دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال، ووطأت لك الأمور، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، وأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم؛ وإني لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك؛ وأما الحسين بن علي فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ليس له همة إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصةٌ وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إرباً إرباً؛ واحقن دماء قومك ما استطعت.
هكذا في الرواية ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وليس بصحيح؛ فإن عبد الرحمن بن أبي بكر كان قد مات قبل معاوية. وقيل: إن يزيد كان غائباً في مرض أبيه وموته، وإن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المري فأمرهما أن يؤديا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه، وهو الصحيح.
ثم مات بدمشق لهلال رجب، وقيل للنصف منه، وقيل لثمان بقين منه، وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً مذ اجتمع له الأمر وبايع له الحسن بن علي، وقيل كان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وقيل وثلاثة أشهر إلا أياماً، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، وقيل ثلاثاً وسبعين سنة. وقيل توفي وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل خمس وثمانين.
وقيل: ولما اشتدت علته وأرجف به قال لأهله: احشوا عيني إثمداً وادهنوا رأسي. ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهد له فجلس وأذن للناس، فسلموا قياماً ولم يجلس أحد، فلما خرجوا عنه قالوا: هو أصح الناس. فقال معاوية عند خروجهم من عنده:
وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع

وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع

وكان به التفاتات، فمات من يومه فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كساني قميصاً فحفظته، وقلم أظفاره يوماً فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة، فإذا مت فألبسوني ذلك القميص واسحقوا تلك القلامة وذروها في عيني وفمي فعسى الله أن يرحمني ببركتها؛ ثم تمثل بشعر الأشهب بن زميلة النهشلي:
إذا مت مات الجود وانقطع الندى ** من الناس إلا من قليلٍ مصرد

وردت أكف السائلين وأمسكوا ** من الدين والدنيا بخلفٍ مجدد

فقالت إحدى بناته: كلا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك. فقال متمثلاً بشعر الهذلي: وإذا المنية، البيت. وقال لأهله: اتقوا الله فإنه لا واقي لمن لا يتقي الله. ثم قضى وأوصى أن يرد نصف ماله إلى بيت المال، كأنه أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم عماله؛ وأنشد لما حضرته الوفاة:
إن تناقش يكن نقاشك يا ر ** ب عذاباً لا طوق لي بالعذاب

أو تجاوز فأنت رب صفوحٌ ** عن مسيءٍ ذنوبه كالتراب

ولما اشتد مرضه أخذت ابنته رملة رأسه في حجرها وجعلت تفليه، فقال: إنك لتفلينه حولاً قلباً، جمع المال من شب إلى دب فليته لا يدخل النار! ثم تمثل:
لقد سعيت لكم من سعي ذي نصبٍ ** وقد كفيتكم التطواف والرحلا

وبلغه أن قوماً يفرحون بموته، فأنشد:
فهل من خالدٍ إن ما هلكنا ** وهل بالموت يا للناس عارٌ؟

وكان في مرضه ربما اختلط في بعض الأوقات، فقال مرة: كم بيننا وبين الغوطة؟ فصاحت بنته: واحزناه! فأفاق فقال: إن تنفي فقد رأيت منفراً.
فلما مات خرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه، فحمد الله وأثن عليه ثم قال: إن معاوية كان عود العرب وحد العرب وجد العرب، قطع الله به الفتنة وملكه على العباد وفتح به البلاد، إلا أنه قد مات وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثم هو الهرج إلى يوم القيامة، فمن كان يريد أن يهده فعنده الأولى. وصلى عليه الضحاك.
وقيل: لما اشتد مرضه، أي مرض معاوية، كان ولده يزيد بحوارين، فكتبوا إليه يحثونه على المجيء ليدركه، فقال يزيد شعراً:
جاء البريد بقرطاسٍ يخب به ** فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قلنا: لك الويل ماذا في كتابكم؟ ** قال: الخليفة أمسى مثبتاً وجعا

ثم انبعثنا إلى خوضٍ مزممةٍ ** نرمي الفجاج بها لا نأتلي سرعا

فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ** كأن أغبر من أركانها انقطعا

من لم تزل نفسه توفي على شرفٍ ** توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا

لما انتهينا وباب الدار منصفقٌ ** وصوت رملة ريع القلب فانصدعا

ثم ارعوى القلب شيئاً بعد طيرته ** والنفس تعلم أن قد أثبتت جزعا

أودى ابن هندٍ وأودى المجد يتبعه ** كانا جميعاً فماتا قاطنين معا

أغر أبلج يستسقى الغمام به ** لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا

فأقبل يزيد وقد دفن فأتى قبره فصلى عليه.